الحلقة ‏الرابعة- ‏سيرسي

سيرسي!
تأليف: جيسيكا بينوت
الحلقة الرابعة

قضينا ساعات مملة نتفرج على أفلام عن المرض النفسي ونسمع محاضرات عن طريق التعامل مع المرضى والممنوعات عليهم، بعدها قعدت ممرضة ضخمة سردت علينا كل شيء عن تاريخ المؤسسة وعدد ووظائف العاملين فيها.
الساعة أربعة جه طبيبين نفسيين مقيمين، دكتور دونالد، وهو رجل عجوز بدقن رمادية، وكان شغال في قسم الحالات الحادة..يعني مش هاشوفه تاني قبل ست شهور.
أما الطبيب التاني كان دكتورة كاسندرا آلن..كاسي..
كانت باردة ومافيش أي تعبيرات محددة على وشها وماسابتش عندي اي إنطباع..
وكانت شقرا، بعيون زرقا..
غريبة إن أكتر المواقف الي بتغير حياة الأإنسان الواحد ما بياخدش باله منها ولا بيحسها مهمة.
كاسي كانت عاملة شعرها ضفيرة عشوائية طويلة على كتفها، عينيها الزرقاء الباهتة كانت بتبصلنا بخواء من وراه نضارتها أم إطار إسود، بشرتها كانت بيضا جدا لدرجة إني كنت شايف العروق من تحت جلدها، مكانش فيها اي شيء مثير للدهشة أو تلفت النظر بأي شكل حتى لبسها كان عادي جدا، وكانت نحيفة للغاية، بس ممكن أتخيل أكتر من مجرد جلد أبيض مشدود على عضم لو ركزت شوية.
عرفت نفسها لي وقالت:
- أنا دكتور آلن.
- أنا إريك بلاك.
- أنا بروح البيت الساعة أربعة ونص.
قالتها وكأن المفروض إني فاهم قصدها إيه. فضلت باصصلها لحد ما كملت وقالت:
- الساعة خمسة إلا ربع دلوقتي، وده المرة الوحيدة الي هاتأخر فيها بسببك. ممكن أطلب منك تتأخر لكن أنا مش هامشي بعد أربعة ونص أبدا.
- أكيد طبعا مفهوم.
بصت لي من فوق لتحت، وقالت:
- تعالى ورايا.
مشت في الإتجاه المعاكس لقسم الحالات الحادة وفي إتجاه ساحة فاضية. مبنى روبرتسون كان شبه قسم الحالات الحادة وكان نسخة من باقي المباني، لكنه كان واقف لوحده وسط ساحة فاضية.
قادتني دكتورة آلن وسك الممرات، بفتح أبواب وتقفل أبواب في طريقها لحد ما ركبنا الأسانسسير وطلعنا الدور الرابع. مكتبها كان كبير ومظلم ومترب.
الحوائط كانت متغطية بمكتبات مليانة كتب محطوطة جنب بعض وفوق بعض بشكل فوضوي. الكتب كانت عتيقة، اقدم من المبنى نفسه. بعض الكتب كانت طبية، واغلبها كانت كتب فلسفة واساطير وسحر. 
مكانتش معلقة شهاداتها على الحوائط زي ماهو متوقع، مكانش في غير لوحة عبارة عن ست عريانة ماسكة قلب بشري بين إيديها.
- مافيش مكاتب تانية متاحة، هانضطر نتشارك المكتب ده. ده إدموند دولاك..
- نعم؟
- اللوحة..الست دي سيرسي.
- مين؟
- الست الي في اللوحة..
الرسمة كانت أبعد ما يكون عن تخيلي للساحرة سيرسي، كانت صغيرة اقرب للمراهقة، وسمرا..وكانت جميلة.
إديتني دكتورة آلن سلسلة مفاتيح فيها مفتاح البوابة ومفتاح الجراج والمكتب والاسانسير. وشاورت لي على ترابيزة في الركن ممكن استخدمها.
- هانتشارك نفس الكومبيوتر، ومش هاتقدر تستقبل إلا مكالمات الطواريء فقط، مافيش مكالمات شخصية. متوقع الاقيك هنا الساعة 7 الصبح. أي أسئلة؟
- كل شيء واضح زي المطر.
- هو المطر واضح؟
- أعتقد!
مشينا لساحة الإنتظار ومقالتش ولا كلمة ولا حتى وداع قبل ما تركب عربيتها. ما أخبيش إني بدأت أشك إني إخترت غلط وإتدبست في عزلة كاملة لمدة ست شهور.
______________________________
الفصل الثالث

أنا الحية المتفاخرة، ذات الأنياب النارية..

ثوريساز- المَخرج

____________________
صدقني، أنا مش حالم..مابضيعش وقتي في تخيل مستقبل غير محتمل، مبابحبش الروايات ومتمسك بالحاضر وبس..عمري ما ضيعت وقت في الأحلام.
نومي كان شبه خالي من الأحلام، ولو حلمت بنسى أحلامي..
لكن الليلة دي أول مرة أحلم حلم مجسم بالألوان الطبيعية، ولأول مرة أتفهم سر شغف مراضي بتفسيرات لأحلامهم ومابيقتنعوش بتفسيرات فرويد والاعيب العقل الباطن.
الحقيقة الأحلام هي نشاط عصبي في المخ، ذكراتك بتتحرر وكل مخاوفك والي مضايقك او شاغلك بيظهرلك على شاشة الأحلام بليل، مافيهاش حاجة مستاهلة تفسير غيبي، الموضوع بسيط وعشوائي.
حلمي مكانش سهل الفهم..أما صحيت الساعة 2 غرقن في عرقي جنب مراتي، حسيت بالخواء والإنزعاج وماقدرتش أدخل في النوم تاني.
في الحلم شوفت ست، على الأاقل كنت معتقد إنها ست، جلدها كان تحته عرق سوداء بتنبض، ملامحها كانت بشرية لكنها مكانتش من البشر. حشرات كانت بتزحف بره بُقها وترجع تدخل من مناخيرها، عناكب كانت بتجري تحت جلدها الشفاف.
كانت في حالة ولادة مستمرة..بتولد ذئاب، والذئاب بترجع تقع بطنها وتدخل جوها تاني. كان شعرها عبارة عن أذرع مرعبة بممصات زي الأاخطبوط. رغم إن كل حتة في جسمها بتتحرك، بس كانت مدياني إنطباع بالسكون، كانها تمثال موبوء بالأفاعي.
أما صحيت كنت لسه قادر أشم ريحتها، وصورتها مبطوعة في عقلي، ومافيش أي نشاط عملته قدر يشوش عليها. أخيرا بريا صحيت ولقتني قاعد على الكنبة.
قعدت جنبي وسألتني وهي نص نايمة:
- صحيت ليه؟
- مش قادر أنام.
- غريبة..طول عمرك بتنام أي وقت.
- عارف، وده الي ضايقني أكتر من اي حاجة تانية.
- غنت متوتر بسبب الشغل الجديد صح؟
- ما أعتقدش.
- أمال مالك يا دكتور؟
- حلمت..
- بتهزر! مش كنت مصدعني إن الأاحلام نشاط من المخ!
- بكره إستخدامك لقناعاتي ضدي!
مشاكستها حسنت مزاجي إلى كبير وخلت الست المرعبة تختفي بالتدريج.
أما بكون معاها كل حاجة تانية بتختفي، وماهمنيش إني مانمتش لأن وجودها خلاي أصحى فايق. كانت نايمة عريانة وشعرها منثور حواليها، وماقامتش أما أنا صحيت. كان ممكن أقضي طول اليوم أبصلها مش أكتر وأسمع لصوت نفسها.
كنت متوعد أنزل أجري ساعتين تلاتة قبل الشغل، وكان بريا بتصحى على مهلها وتفطر وتكلم مامتها، وكان التمرين آخر حاجة بتفكر فيها. بس كان عندها أربع فيديوهات لتمارين منزلية، أكتر واحد بحبه فيهم هو اليوجا. كنت بقعد أتفرج عليها وكنت بكره تفوت تمرين.
إستنيت لحد ما آندي جت بعربيتها الفولكس متأخرة، ركبت متغصب، وكل ما الوقت كان بيعيد كنت بفكر في طريقة أقتلها بيها وهي نايمة.
- معلش العربية عطلت..
- المرة الجاية لو العربية فيها مشكلة كلميني وهاعدي عليكم أنا آخدكم..بس مش هاينفع أتأخر كده. دكتور آلن صعبة أوي.
قعدت في الكنبة الي وار، وحاولت ما أركزش في رغي آندي من طرف واحد من جون.
ضحكتها كانت عاملة زي الصنفرة، كان معايا في الجامعة بنت زي آندي كده وكانت برضة مليان وبتلبس شورت قصير وحمالات ومبينة وشومها.بصراحة بكره الناس الي ما بتحترمش وزنها دي. كنت مجبر أشتغل معاها في بحث بس قدرت بمعجزة أخليها تسيب البحث خالص وتشوفلها حتة تانية بلحمها ده.
بريا كانت زعلانة من تصرفي ده جدا لأنها شايفة إني ضيعت مستقبل البنت علشان مش عاجباني.
عارف إنها ما غلطتش، وعارف إني إستغليت عيوب فيها علشان تبان إنها غلطت.
بريا مكاتش قادرة تفهم، ولا هاتقدر تفهم كري لآندي..النوع ده من الستات هايفضل يتكلم عليا من ورايا ويعمل فيا مقالب علشان يبان أحسن مني. ماكانش ينفع أقول الكلام ده لبريا لأني هبان قدامها عندي جنون إضطهاد. عموما أنا كنت واثق إن آندي كانت بتتهامس مع جون عني.
الناس عايزة تقلل مني وتأذيني علشان أنا أحس منهم، طول عمري كنت أفضل طالب وأفضل طبيب نفسي وده الي بيخليهم يغيروا مني. الي وصلتله كان بإجتهادي مش زيهم.
كنت سعيد إني مش مضطر أشتغل مع آندي، لأاني لو كنت مضطر كنت هاسود عيشتها. بس أنا مش عايز أعمل ده ولا عايز أدمر مستقبلها ومن حظنا إحنا الإثنين إننا بعدنا عن بعض.
___________________________
أول كام إسبوع في الشغل كانوا صعبين، لكن الشغل نفسه كان مخليني أتحمل كاسي كرئيسة. كانت بتتكلم بشكل مباشر ومكانتش بتديني أوامر، كانت بتكتب الي عايزاه مني على ورقة وتسيبها على مكتبي.
لسة فاكر أو تعليمات كتبتهالي:
إقرا الملفات على مكتبي
روح لتخيطيط العلاج في أوضة 5
إتغدى
إحضر جلشات العلاج مع كاتي علشان إنت هاتستلم منها بكرة.
أقعد مع السيد بينوت والسيد إثان، والسيدة آيدون والسيد نيكا، علشان تنسق علاجهم بكرة.
أكتب تقارير زي النموذج الي على مكتبك.
ممكن تمشي أما تخلص شغلك.

الغريب إنها كانت واثقة فيا أعمل كل الشغل ده من غير إشراف مباشر منها، والأغرب إني ماكونتش عارف لو أنا هاعمل كل ده هي بتعمل إيه؟! 
يبان إن ده كان حلمي من الأاول، مشرف بعيد مابنتقابلش وسابني في حالي تماما، بس كنت غلطان، ماكونتش مرتاح تجاه غيابها التام. كنت حاسس بالعجز وإني مش ماهر زي ما كنت متخيل.
أما وصلت لمرحلة تخطيط العلاج الشاعة 8، أوضة 5 كانت فاضية أكتر مما تخيلتها. كان في خمسة بس من الأطقم الطبية، وكانت السيدة جارنر الأخصائية الإجتماعية، قاعدة في ركن وتزعق للمرضة الي معاها. جنب الممرضة كان قاعد دكتور يوشي، كان لابس هدوم عزها كان في التمانينات. كان بينام على روحه بس ما كونتش قادر احدد هل هو بينام فعلا ولا بيتمايل لسبب ما بسبب نضارته الغامقة. 
السيدة جارنر بصيتلي أول ما دخلت وقالت لي في عصبية:
- إنت طالب ولا متدرب؟
- متدرب.
- كويس علشان قرفت من الطلبة. الطريقة المتعالية الي بعاملونا بيها..حاجة تنرفز.
كنت مستغرب عصبيتها أوي، قلت لها:
- أنا دكتور..
كنت متخيل إنها هاتفهم وتبطل خناق، لكنها كملت:
- ببيجوا هنا يتعلموا، بس مناخيرهم في السما ماتفهمش على إيه..شوية جهلة.
قربت مني الممرضة وقالت لي:
- معلش شافت منهم كتير خاصة آخر طالب جه هنا. كانوا بيتخانقوا على تشخيص حالة والموضوع وصل للمشرفين، وتشخيص الطالب هو الي كان صح.
صرخت السيدة جارن:
- ماتخرسي! إسمك إيه بقا؟
- دكتور بلاك.
- دكتور آلن هاتشرفنا بحضوها النهاردة؟
- أشك..بس أنا قريت كل التقارير وأقدر أحل محلها.
- هنبدأ بقا..الطالب من دول يقراله تقيريرن ويقولك هاحل محل دكتور!
- بس أنا مش طالب! أنا خلصت دكتوراه ومؤهل أحل محل دكتورة آلن وتحت إشرافها!
- هي فعلا أشرفت عليك في حاجة؟
قالت الممرضة:
- كفاية بقا! هاتطلعي عينه علشان مابتحبيش دكتورة آلن! مايتصرفوا هم مع بعض إيه دخلك؟
سألت علشان أقفل الموضوع:
- مش المفروض نبدأ من تلت ساعة؟
طلعت الممرضة ورجعت بعد دقايق ومعاها رجل ستيني لسانه طالع بره، الرجل قعد قريب مني وفضل يطلع ويدخل لسانه ويعمل صوت شفط سخيف.
تقرير دكتورة آلن بيقول إن السيد جيليز حالته كالتالي: كان قذر، وبيعمل بعض التصرفات المألوفة عن المرضة العقليين. مكانش واعي للمكان ولا الزم وبقاله 32 سنة مابين لإقامة في سيرسي والخروج منها لفترة قبل العودة لها. مع الوقت حالته سائت ومابقاش عنده عيلة تاخد بالها منه وبقا مش قادر على تنظيف نفسه ولا إستخدام الحمام لوحده.
تشخيص دكتورة آلن كان فصام.
سألت السيدة جارنر الحالة:
- سيد جيليز، إنت عارف إنت هنا النهاردة ليه؟
إتقلب السيد جيليز في كرسية ومال عليا وبص لي وهو بيسألها:
- من ده؟
- دكتور بلاك، هايبقا طبيبك المعالج من النهاردة.
- وإنت شغلتك إيه؟
قلت:
- شغلتي أحاول أساعدك.
طلع لسانه بره ببطء وهو بيبص لي وبعدين قال:
- إنت عارف إني عشت في افريقيا 50 سنة؟
- فعلا؟ إنت عارف إنت فين دلوقتي؟
- في المستشفى.
سألت السيدة جارنر:
- وعارف إنت هنا ليه؟
- علشان عيان.
- ليه عيان؟
- علشان الحرب باين؟؟
- اي حرب؟
- حرب من بتوع أفريقيا دول، عارفاهم؟ في نيجيريا..أصل أا أفرقي بس البينو، عدو الشمس يعني علشان كده أبيض.
مكانش في حد ممكن يكون أفتح في لون البشرة من السيد جيلي، ولو فيه أي نسبة إفريقية هاتكون من القهوة الإفريقي الي بنشربها في الكافيتريا. سألته السيدة جارنر:
- عارف عندك كم سنة؟
- واحد وعشرين إتنين وعشرين..عطشان..عايز ميه!
قالت السيدة جارنر موجهة كلامها ليا:
- كنا بنضطر ننقل السيد جارنر للعناية الطبية لأنه بيحصل له خلل في الاليكترولايت..كان بيسرق الميه ويشرب كميات مهولة لحد ما أثرت في قلبه. بنشربه 8 كوبابت في اليوم بس هو عايز 8 جالونات!
بعد أسئلة كتير، قرر الدكتور إنه يبدأ علاج في جلسات الواقع و جلسات التأمل تلات شهور تانيين. قلت لهم:- بس دكتور آلن كانت كاتبة إنه بيتحسن مع مجموعة كاتي وجلسات السلوك أكتر من جلسات الواقع. هي أوصت بتغيير المجموعة والكشف عليه بعد شهر واحد لتقييمه.
قالت السيدة جارنر:
- السيد جيليز مش بيتحسن على أي جلسات أصلا.
- التقارير بتقول إنه غير متصل مع الواقع بأي شكل. ومكتوب إنه واظب على علاج جلسات الواقع عشرين سنة بدون تحسن.
مال عليا دكتور يوشي وبص لي من فوق نضارته وقال:
- إحنا مش متوقعين إنه يتحسن. \
- بس العلاج الدوائي لوحده مش كافي! 
- طيب مانجرب إقتراحاتك..تقترح إيه؟
قاطعت السيدة جارنر طلب دكتور يوشي وقالت وهي بترمي ملف الحالة في وشي:
- إنت عليك تعمل الشغل الورقي والإداري يا دكتور  فهمت؟
- هحاول.
إكتشفت بعد كده إن أغلب شغلي هو شغل ورقي وإستمارات وتصاريح وتقارير وبس. كل يوم على كده، بنكشف على تلات أربع مرضى ونعمل تقرايرهم. كنت بتغدى لوحدي، واللمبات النيون السخيفة في مكتب دكتور آلن بتجيبلي صداع رهيب باقي اليوم.

Comments

Popular posts from this blog

عشرة ‏أيام ‏في ‏مصحة ‏عقلية ‏- ‏تأليف ‏نيلي ‏بلاي (كامل)‏

إهداء- ‏ستيفين ‏كينج- ‏ترحمة: ‏شيرين ‏هنائي

الغلاف ‏الأخير- ‏شيرين ‏هنائي