قضية ‏الطبيب- ‏ستيفين ‏كينج

قضية الطبيب
ستيفين كينج
( قصة مستوحاة من عوالم الكاتب آثر كونان دويل وشخصيته الخيالية الشهيرة شِرلوك هولمز)

أعتقدُ بأن هناك مرة وحيدة قد حللت فيها قضية قبل صديقي المذهل - إلى حد ما- شرلوك هولمز. أٌقول "أعتقد" لأن ذاكرتي قد بدأت في التآكل عند الحواف مع دخولي عِقدي التاسع وإقترابي من عمر المائة عام.
ربما كانت ثمة قضية أخرى قد سبقت فيها صديقي هولمز، لكنني لا أتذكرها.
أشك أنني قد أنسى تفاصيل تلك القضية مهما إهترأت ذاكرتي، لكنني سأخطها على الورق قبل أن يغلق الرب غطاء قلمي للأبد. 
لن يسيء ذكري تلك القضية لصديقي هولمز الذي واراه الثرى منذ أربعين عاما، وهي مدة كافية لترك قصة كهذه بلا رواية.
حتى المفتش ليستراد، والذي كان يستعين بهولمز من وقت لآخر رغم أفتقاد المودة بينهما، لم يكسر الصمت المغلف لقضية اللورد هَل. حتى لو كانت الظروف مواتية لذكر تلك القضية لاحقا، فأنا أشك في أنه قد فعلها.
كان كلا الرجلين يغوي الآخر بقضية ساخنة، لكنني أظن أن هولمز يُكِن ضغينة ما تجاه الشرطي ( ولو أنه لم يذكر بشكل واضح حمله لمشاعر غير لائقة كتلك)، بالرغم من ذلك كان ليستراد يحترم صديقي للغاية.
_______________________ 
كانت ظهيرة مطيرة، وكانت الساعة تعلن بدقاتها الواحدة والنصف. جلس هولمز جوار النافذة ممسكا الكمان بلا عزف، مُحدقا في المطر.
كان ثمة أوقات تلي شفاؤه من إدمان الكوكايين، حين يتأرجح مزاجه إلى حد الإكفهرار بسبب هطول المطر المستمر لأسابيع. في تلك الظهيرة بالذات كان يتوقع هولمز أن تنقشع السحب بحلول العاشرة صباحا، لكن هذا لم يحدث. ولا شيء يعكر مزاج هولمز أكثر من ثبوت خطأ توقعاته.
قام من مجلسه فجأة وداعب وتر الكمان بإظفره، وابتسم ساخرا وقال لي:
- واتسون، هناك مشهد رائع بالخارج! كلب بوليسي مبتل!
أطللتُ في النافذة، وكان المفتش ليستراد - وهو من يقصده هولمز ب"الكلب البوليسي"- ينزل من العربة مكشوفة السقف، والمطر يغمر عينيه الفضوليتين متساقطا من حاجبيه الكثين. قبل أن تتوقف العربة تماما كان قد ترجل منها مطوحا للحوذي عملة معدنية، وراح يجد السير نحو المبنى الذي نقطنه في شارع بيكر. كان يعدو نحو الباب حتى ظننته سينطحه كثورٍ هائج.
سمعت مدبرة المنزل، السيدة هودسون، تحتج على بلل المفتش وعلى الأثر الذي قد يتركه هذا البلل على بساط المدخل وبساط حجرة هولمز.
أطل هولمز برأسه خارج باب الحجرة وصاح:
- دعيه يا سيدة هودسون، لو مكث طويلا سأفرد جريدة تحت حذاءه. لكنني أظنه أنه لن....
سمعتُ صوت خطوات ليستراد على السلم صاعدة إلينا، كان وجهه محمرا وعينيه مُتأججتين وأسنانه مصفرة من أثر التبغ، وكان يبتسم في مكر. صاح هولمز في بهجة مصطنعة:
- المفتش ليستراد! ما الذي أتى بك في...
رد ليستراد وهو يحاول إقتناص أنفاسه الفارة من رئتيه:
- يقول الغجر أن الشيطان يمنح الأماني، والآن أصدقهم. تعال على وجه السرعة لو أردت إقتناص الفرصة، الجثة لازالت طازجة والمشتبه بهم مُصطفين!
- تُخيفُني بحماسك يا ليستراد!
- لا تجادلني وإلا حجبتُ عنك القضية. لُغز حجرة مغلقة متكامل الأركان!
صاح هولمز وهو يتناول عصاه مذهبة الطرف:
- هيا يا واتسون! فلتبدأ اللعبة!
____________________________________
في طريقنا، جلس هولمز على اليسار وراح ينظر بعينيه القلقتين لكل شيء عازما على تصنفيه في باب من أبواب عقله المرتب، ولو أنه لم يكن ثمة ما يُرى في لك اليوم، بدا لي أن الحوانيت المغلقة والشوارع الخالية تهمس لهولمز بأسرار لا نسمعها.
سأل ليستراد هولمز إن كان يعرف اللورد هّل.
- سمعت به، لكنني لم أحظ بشرف ملاقاته، وأظنني لن أحظ بهذا الشرف مطلقا. كان يعمل في الشحن اليس كذلك؟
-  في الشحن، نعم..لكن اللورد هَل كان شخصا قذرا حتى ليبدُ كشرير في قصص أطفال مصورة. في حوالي الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم، أي منذ ساعتين وأربعين دقيقة، أحدهم طعن اللورد هَل بسكين في ظهره وهو جالس إلى مكتبه وأمامه وصيته.
بدأ هولمز في إشعال غليونه وقال:
- إذن، إنت تظن أن مكتب اللورد هل هومكان مغلق يصلح كي تظن أن لا يمكن اختراقه؟ قلت أن القضية من نوعية لغز الأماكن المغلقة.
لمعت عيني هولمز من خلف دخان غليونه في ريبة. قال ليستراد:
- ومازلت أعتقد إن القضية كذلك.
- لقد خُضنا تلك الأراضي أنا وواتسون مسبقا ولم تقودنا إلى أي مكان. هل تذكر قضية العصابة المرقطة يا واتسون؟
كنت أذكر شيئا كهذا، قضية غرفة مغلقة استخدم القاتل فيها مولد هواء مسمم وثعبان مُخبأ. كان تخطيط من عقل حَذِق. سأل هولمز ليستراد:
- ما الحقائق التي لديك عن القضية؟
شرع المفتش يسرد علينا ما يعرفه مستعينا بمفكرته. لورد البرت هَل كان من حيتان مهنته وكان مستبدا في بيته. زوجته كانت مذعورة من هذا الإستبداد وكان لها الحق. إنجابها له ثلاث أبناء لم يشفع لها عنده ولن يُحسن من سلوكه المنزلي بشكل عام، وسلوكه معها بشكل خاص.
السيدة هَل مانعت في الحديث معي عن تلك الأمور، لكن أولادها لم يكونوا بهذا التحفظ. قالوا لي أن والدهم لم يترك فرصة لإيذائها او إنتقادها أو التقليل من شأنها إلا وفعل...وكانت أفعاله تلك حين يكونا هو زوجته في صحبة آخرين. أما إن كانا وحدهما فيتجاهلها تماما إلا في بعض الأحيان التي كان يشعر فيها برغبة في ضربها، لكن الضرب كان سلوكا نادرا. 
سأل هولمز:
- شخصية مسلية! الم يحاول الأولاد أن يكفوا عنها أذاه؟
- لم تكن لتسمح بذلك!
صحتُ أنا:
- هذا جنون!
الرجل الذي يضرب إمرأته هو مسخ، والمرأة التي تسمح له بذلك لا تقل عنه في الشذوذ عن الطبيعة.
أضاف ليستارد:
- هناك منطق خلف جنونها هذا، منطق وصبر معلوم النتيجة. كانت أصغر منه بسبع وعشرين عاما، وكان اللورد مُعاقر للخمر، مسرف في الأكل. منذ خمس أعوام، وهو في سن السبعين، أصيب بالنقرس والذبحة.
- كانت زوجته تنتظر إنجلاء العاصفة كي تستمتع بالشمس!
- اجل..وهو إنتظار ممجوج، قاد العديد من النساء والرجال إلى باب من أبواب الشياطين. حرص اللورد هل على أن يُعلم عائلته قيمة ثروته وشروط وصيته في حياته، كان يعاملهم معاملة أقل من معاملة العبيد. بلغت ثروة اللورد هل ثلاثمائة الف جنيها استرلينيا، وكان لديه محاسب يتولي إحصاء ثورته وتوثيقها، لكن كل شيء عن إدارة الثروة كان في يده اللورد وحده.
صحتُ:
- ياله من شيطان!
تنامى إلى عقلي منظر طفل مشاغب، يشير إلى كلب بقطعة حلوى حتى يقترب، فيبتلعها هو تاركا الكلب الجائع في خيبة أمله. أكمل ليستراد حديثه:
- في حال موته وحسب وصيته، سيكون للسيدة ريبيكا زوجته مائة وخمسين الفا من الجنيهات. ولإبنه الأكبر ويليام خمسين ألفا، وللأوسط جوري أربعين الفا، وللأصغر ستيفين ثلاثين الفا.
- ماذا عن السبعين الف المتبقية؟
- قسمها على إبن أخ له في ويلز، وعمة في بريتاني، وخمسة آلاف للخدم. سيروق لك ما سأقوله تاليًا يا هولمز، أوصى اللورد بعشرة آلاف جنيه لملجأ القطط الضالة!
صرختُ:
- أنت تمزح!
ليستراد توقع رد فعل مماثل من هولمز لكن خاب أمله. أشعل الأخير غليونه مجددا وأومأ برأسه كأنه كان يتوقع شيئا ممثالا وقال:
- مع كل البؤس والفقر الذي يجتاح اطفال العالم اليتامى ، يكتب وصية لملجأ قطط؟
- كان ليترك أكثر مائتي وسبعين الف جنيه لملجأ القطط، لولا ما حدث هذا الصباح.
بدأت في الحساب في عقلي.. كيف له أن يوفر مائتي ألف جنيه للقطط دون أن يحرم زوجته وأولاده من أنصبتهم؟ توقع هولمز أن الرجل يمتلك عددا من القطط في بيته طالما يعشقهم إلى هذه الدرجة. سأل ليستراد مازحا بشأن حساسيته للقطط:
- هل سأعطس؟
- بالتأكيد!
- كم قط لديه؟
- عشرة!
- شككت في قضية الغرفة المغلقة التي كنت تصطادني بها! كنت أشعر أن ثمة مقلب في الأمر!
- كما تحب، لكننا متوجهين إلى مسرح الجريمة، نداء الواجب كما تعلم. يمكنني أن اُنزلك هنا لو شئت!
قال هولمز في حنق:
- أنت الوحيد الذي قابلته في حياتي الذي يملك مزاجا للمزاح في طقس كهذا! هل يخبرنا ذلك بشيء عن شخصيتك؟ لا عليك..لهذا حديث آخر. اخبرني يا ليستراد، متى تأكد لورد هَل من أنه سيموت قريبا؟
سألت هولمز:
- يموت قريبا؟ ما الذي جعل خاطرا كهذا.....
- واضح يا واتسون.. كان يروق للرجل أن يبقهم في العبودية على أمل الحصول على ما أوصى لهم به بعد موته. وصية كتلك لا تتماشى ما نمط شخصيته، الا توافقني الرأي يا ليستراد؟ عرف اللورد هَل أنه سيموت..ينتظر كي يستوثق من الخبر، ثم يدعو أفراد عائلته الحبيبة إلى المنزل، متى؟ هذا الصباح يا ليستراد؟ ويخبرهم أنه قد كتب وصية جديدة، وصية يحرمهم فيها من الميراث ويترك ما كتبه من قبل للخدم وأقاربه وبالطبع للقطط اليتيمة!

ظلت صورة الطفل المشاغب والكلب تعود لي، وتذكرني بكل اليتامى المحتاجين. يبدو اللورد بالنسبة لي فاقدا للأهلية، لكنا في عام 1899 مضطرين لاحترام وصية الميت. مالم يثبت على الفقيد في حياته الجنون الواضح والفج فوصيته واجبة كوصية الرب.
سأل هولمز:
- هل شهد أحد على الوصية الجديدة؟
- نعم. أمس استدعى اللورد كاتب العدل وأحد معاونيه إلى مكتبه، وظلوا بالداخل برهة، قال لي ستيفن هَل ان كاتب العدل رفع صوته إحتجاجا على شيء لم يميزه الإبن، وأخرسه اللورد. كان الإبن الأوسط في الطابق العلوي يرسم، والسيدة هَل في مكالمة مع صديقة. لكن كلا من ستيفن ووليام هّل رأيا الرجلين يدخلان ويخرجان من مكتب اللورد بعد فترة قصيرة. قال ويليام إنهما غادرا مُنكسي الرأسين. سأل ويليام كاتب العدل عن احواله، لكن الرجل ومرافقه لم يتجاوبا مع الشاب، وبديا له وكأنهما يشعران بالخزي.
- إخبرني عن الأبناء يا ليستراد.
- ويليام في السادسة والعشرين، لم يكن ابيه يمنحه أية أموال، وكان يمضي الشاب جل وقته في صالات الألعاب الرياضية ليواكب الثقافة الجسدية الرائجة هذه الأيام. لو كان للشاب مالا لأنفقه فيما لايفيد ولفقده في لمح البصر. كان شابا يحيا بلا هدف ولا مهارة ولا هواية ولا طموح، إلا إذا كانت رغبته في الخلاص من أبيه طموحا كافيا. أثناء استجوابه كنت أشعر أنني في حوار مع حاوية فارغة تحمل ملامح وجه اللورد هّل أعلاها.
- حاوية فارغة تنتظر أن تُملأ بالجنيهات.
- جوري مختلف تماما، وكان اللورد هل يحتفظ له بأكبر قدر من الكراهية. كان يطلق عليه إسماء تدليل في صغره مثل: وجه السمكة، ذي الساقين المقوستين، نتن البطن. ليس من الصعب استنتاج مظهر جوري من خلال تلك الأاسماء. جوري هل قزما مشوه الوجه، مقوس الساقين. وُلِد جوري ميتا، بعد أن ظل ساكنا مزرقا لمدة دقيقة، وضع الطبيب المنشفة على جسده المشوه وأعلن وفاته. السيدة هّل، في لحظة بطولة منها، قامت وأزالت المنشفة وغمست ساقي الوليد في الماء الساخن المُعَد للولادة، فأطلق الأخير صراخا وعويلا عاليا.
إدعى اللورد إن فعلة زوجته هي ما تسببت في تقوس ساقي الولد، وفي غمار سكره كان يلعنها ويلعن ما فعلته كي تعيده للحياة، فكان يرى أن خيرا له لو مات على أن يحيا حياة معذبة كحياته.

لاحظ هولمز أن ليستراد لديه كم عظيم من المعلومات مقارنة بالزمن الذي أتيح له للتحقيق، فالرجل مات منذ ثلاث ساعات لا أكثر. بهذا الشأن أجاب ليستراد:
- لم أبذل اي جهد في إجبارهم على الحديث، كل جهدي كان في إجبارهم على الصمت قليلا! ثم ان الوصية الجديدة قد اختفت وقد اراحهم هذا وأطلق السنتهم.

صحتُ في ذهول:
- الوصية اختفت؟!
كان هولمز لا يزال يفكر في جوري، الإبن المشوه الأوسط. سأل ليستراد:
- هل رأيت جوري؟ أهو بهذا القبح؟
- بالكاد وسيم، لم يكن بالقبح الذي تصورته. أعتقد أن أباه قد افرط في إهانته لأنه..
- لأنه الوحيد الذي لم يحتج لمال أبيه كي يشق طريقه في الحياة.
- يالك من شيطان! كيف عرفت؟!
- كراهية شخص بسبب مظهره وتشوهه تدفعه للإستغناء التام عن كارهيه والإستقلال ومحاولة إثبات إنه كامل وقادر وقوي. أكاد أجزم أن اللورد كان يخشى جوري. 
كان جوري موهوبا، لكنه لم يكن رساما عظيما كما أخبرنا ليستراد، ما لفت نظر المفتش في لوحاته هي لوحة رسمها لأبيه، لوحة شيطانية بغيضة تشبه لوحة دوريان جراي في رواية أوسكار وايلد الشهيرة.
كان جوري أيضا رساما سريعا، فقد يعود من رحلة قصيرة إلى هايد بارك بمبلغ مالي ممتاز بعد رسمه للعشرات من رواد الحديقة في وقت قصير. أكمل ليستراد حديثه:
- كان عمل جوري كرسام جوال يغضب أبيه، ولم يكن الشاب ليبادل مقعد رسمه ومصدر دخله بشيء. ولم يترك الرسم في هايد بارك إلا بعد أن وافق أبيه على منحه ثلاثين جنيها في الأسبوع.
- أدميت قلبي! إحك لي عن الإبن الثالث سريعا يا ليستراد، لقد شارفنا على الوصول.
كما حكى ليستراد، ستيفين هل كان لديه السبب الأعظم لكراهيه أبيه، كان اللورد يحمل كل اخطاء العمل وثقله على ستيفين الذي كان في الثالثة والعشرين من عمره. ومع كل تلك المشقة والمسؤلية، لم يكن يعطه راتبا. كان لابد للورد هل أن ينظر لستيفن بعين العطف والإمتنان كونه الوحيد من بين أخوته الذي أبدى اهتماما بعمل أبيه وساعده فيه بل وطور منه. كان ستيفن إبنا صالحا إلا أن اللورد هل قابل إحسانه بالجحود والغيرة والشك. لسبب ما أشاع اللورد هل في آخر عامين له في الحياة أن ستيفين غير أمين. 
قال هولمز:
- لنترك جانبا أمر الوصية الجديدة ونعود للوصية القديمة. رغم كل مجهودات ستيفن وتفانيه في العمل وإحسانه لأبيه، إلا إنه كان صاحب النصيب الأقل في الوصية القديمة. ماذا عن شركة الشحن نفسها؟ ما مصيرها في وصية القطط الجديدة ؟
- كانت ستؤول إلى مجلس إدارة بدون أي إشارة لستيفن او موقفه منها. لكن في حالة ضياع الوصية الجديدة وموت الأب فسيكون ستيفن المستفيد كما يطلق عليه القانون، وسيختاره مجلس إدارة الشركة رئيسا له.
- المستفيد؟ تعبير ممتاز..تمهل قليلا أيها الحوذي فنحن لم ننته بعد!
توقف الحوذي قبل ثلاثين ياردة من منزل هل. كان المطر ينهمر على جوانب العربة وفوق رأس الحوذي والخيول خارجها. سأل هولمز:
- الوصية القديمة مفقودة، اليست كذلك؟
- كلا، كانت على مكتبه جوار جثته.
- لدينا إذن أربعة من المشتبه بهم، ولا داعي للتفكير في الخدم مؤقتا. هيا يا ليستراد إحك ما تبقى في جعبتك..ماذا عن لغز الغرفة المغلقة؟

راجع ليستراد مفكرته قبل ان يخبرنا أنه من شهر مضى، وجد اللوردهَل بقعة داكنة على ساقه اليمنى، وكان تشخيص طبيب العائلة أن الساق مصابة بالإنتان ( الغنغرينا) ونصحه بأن يخضع لجراحة لبتر الساق، وإن لم يفعل سيكون أمامه ستة أشهر حتى موته، وآخر شهرين سيحيا في عذاب أليم.
كان اللورد يفضل أن يُدفن كقطعة واحدة لا ينقصها شيء، لكنه سأل الطبيب إن كان البتر سيمنحه سنوات إضافية، فأجابة الطبيب أنه لم يملك سوى ذات الستة أشهر بعدها يموت.
خطط اللورد هل للتعامل مع الألم بالخمر، ووضع اللَّبنات لوصيته الجديدة سرا.
في هذا الصباح أستدعى لورد هل عائلته ، وتلا عليهم وصيته الجديدة والتي يترك فيها أغلب ثورته لملجأ القطط. تلا إعلانه صمتا إتكأ خلاله اللورد على عصا وأعلن بإبتسامة شيطانية:
- أعتقد أن الأمور واضحة. لقد خدمتموني طويلا، لكنني قد عزمت بإرادتي ووعيي الكامل، أن أبعدكم عني من الآن وإلى الأبد. لا تحزنوا، فكان من الممكن أن تسوء الأامور أكثر بيننا. لو كان ثمة وقت لكنت حنطت قططي كما يفعل الفراعنة وأخذتها معي للعالم للآخر كي ترحب بي هناك، ونحيا معا للأبد!
ظل الرجل يضحك، تهتز قسامته المحتضرة، بينما يمسك الوصية الجديدة بين مخالبه.
نهض ويليام وقال:
- سيدي، ربما تكون أبي وذي الفضل في وجودي، لكنك كذلك أحقر شخص سار على وجه الأرض، لا يسبقك في الحقارة سوى الأفعى التي أخرجت آدم من الجنة!
رد اللورد ضاحكا:
- أبدا! أعرف من هم أحقر مني. والآن، إذا سمحتم، سأذهب لمكتبي الآن، فلدي اوراق هامة علي أن أودعها الحزينة، وأوراق بلا قيمة علي حرقها.

سأل هولمز في اهتمام:
- أكانت الوصية القديمة معه وقتها؟
- كانت معه.
- كان عليه أن يحرقها بمجرد أن سجل وصيته الجديدة وشهد عليها الشهود. كان لديه وقت طيلة أمس وصباح اليوم ليفعلها. لماذا لم يحرقها يا ليستراد؟
- لا أعلم..ربما كان يغيظهم بها كي يعلموا أن القرار قراره ولن يستطيعوا له رفضا حتى وإن كانت الوصية القديمة أمام أعينهم.
- الم يخطر ببالك أنه تركها كي يقتله أحد أفراد العائلة ويريحه من ألمه؟! ربما كان ستيفين مرشحا لذلك الدور كون الأذى الأكبر قد وقع عليه. وسيكون هو المشتبه به الأول كذلك.

حدقتُ في هولمز مذعورا، أيمكن أن يكون هناك إنسانا بهذا اللؤم؟
- لا عليك..أكمل أيها المفتش، أين لغز الغرفة المغلقة؟
حكي ليستراد أن الأربعة ظلوا صامتين في حجرة الاستقبال، بينما العجوز يتوجه إلى مكتبه لا يسمعون سوى طرقات عصاه على الأرض وأنفاسه الثقيلة، ومواء قط في المطبخ، ودقات ساعة الحائط الرتيبة. ثم سمعوا أخيرا صوت باب المكتب يُغلق حلفه.
مال هولمز أماما وسأل في حدة:
- لم يره أحد حرفيا يدلُفَ إلى مكتبه؟فقط سمعوا صوت الباب؟؟
- ليس الأمر كذلك يا سيدي، السيد أوليفر ستانلي، خادم اللورد، سمع حركته في الرواق المؤدي للمكتب، وجاء إليه ووجده عند سلم المرسم. سأله إن كان يريد شيئا، لكن اللورد حك مؤخرة رأسه ودخل مكتبه وأغلق الباب خلفه. رآى ستيفن نفس المشهد حين قام وكان متوجها لباب المنزل، وأقر بأنه رأى اللورد هل يحك مؤخرة رأسه أيضا.
سأل هولمز:
- هل يمكن أن يكون ستانلي هذا قد حكى لستيفين ما رآه قبل حضور الشرطة؟
- من الممكن طبعا. لكن لا يوجد تواطؤ بينهما.
- أمتأكدٌ من هذا؟
- يمكن لستيفن أن يخفي كذبه، لكن ستانلي لم يكن ماهرا في الكذب. لدي خبرة مهنية يا سيد هولمز مثلك.. دخل اللورد هل مكتبه، الغرفة المغلقة، وسمع الجميع صوت القفل والمزلاج، ثم ساد الصمت.
 ظلت الزوجة والأبناء على صمتهم برهة، ثم قامت الزوجة وطلبت من الخدم إطعام القطة في المطبخ لأن أعصابها لم تكن لتتحمل المواء المستمر.
إنصرفت الزوجة وكذا فعل الأبناء بعدها ببضع دقائق.
صعد ويليام إلى حجرته بالأعلى، وذهب جوري للجلوس على مقعد أسفل السلم حيث إعتاد أن يجلس طيلة عمره حين يشعر بالإحباط او الحزن أو التشوش.
بعد اقل من خمس دقائق، تصاعد صوت شهقة من المكتب، فهرع ستيفين من حجرته وتلاقى مع جوري عند مدخل المكتب، وكان ويليام عند منتصف السلم ورآهم يحاولون إقتحام المكتب مع ستانلي. شهد ستانلي بأماكن تواجد كل شخص منهم بما فيهم الزوجة التي أتت من حجرة العشاء. بعد لحظات تجمع الخدم كلهم داخل المكتب مهشم الباب.
كان اللورد هل منكفئا على مكتبه، وعينيه مفتوحتين باردتين. بالنسبة لي يا شيرلوك كانت عيناه تنظر نظرة متفاجئة، وفي يده كانت وصيته..القديمة! أما الجديدة فلم يكن أثر. كان سبب وفاة اللورد هو خنجر مغروس في ظهره.
_____________________
 دخلنا إلى صالة واسعة للغاية، أرضيتها مكسوة بالرخام الأبيض وألاسود كالشطرنج، قادتنا الصالة إلى باب مغلق في النهاية وهو المدخل الوحيد للمكتب. على اليسار كانت درجات السلم المؤدي إلى بابين آخرين، حجرة الموسيقى وحجرة الاستقبال على ما اعتقد.
قال ليستراد:
- كانت العائلة مجتمعة في غرفة الاستقبال.
رد هولمز:
- جميل. لكن يتوجب علي أنا وواتسون أن نلقي نظرة على مسرح الجريمة.
- هل أصحبكما؟
-لا داعي. هل تم نقل الجثمان؟
- كان في موضعه آخر مرة كنت فيها هنا، على الأغلب قد تم نقله الآن.
- ممتاز.
قبل أن أدخل وهولمز إلى الحجرة، صاح ليستراد:
- لا يوجد مداخل سرية ولا أبواب مخفية..ثق في كلامي أو لا تثق..أنت حر.
- أعتقد انني....
توقف هولمز عن الحديث وتقطعت أنفاسه، نقب في جيبه سريعا وأخرج منديلا عطس فيه بقوة. نظرت لقدمي فوجدت قطا كبيرا يتمشي بين ساقي هولمز! كان بأذن واحد بينما الآخرى مفقودة في معركة حواري قديمة قد خاضها قبل أن يتبناه اللورد هل.
ركل هولمز القط وشرع يعطس مرات متتالية، ففح الأخير وراح يعدو مبتعدا. كان هولمز يعاني من رد فعل تحسسي من القطط منذ زمن بعيد وكان يتجنب أي مكان تكون فيه. سألته إن كان يريد الرحيل، فأجابني أن هذا سيسعد ليستراد، وهو لن يفعل اي شيء يسعده.
عطس هولمز مجددا ثم دخلنا المكتب وأغلق الباب من خلفنا.
______________________
كان المكتب طويلا إلى حد كبير، وكانت هناك نوافذ على جانبيه ولم تكن مضيئة كفاية كي تقتل رمادية أجواء اليوم الممطر. الحوائط مزدانه بالخرائط وادوات القياس وتحديد درجات الحرارة وسرعة واتجاه الريح..إلخ.
النوافذ المغلقة بلا ستائر والمطر يهطل في الخارج، تذكرت قياس هولمز الخاطيء وتنبؤه الكاذب بتحسن الطقس. مهما كان لدينا من أدوات قياس سنظل عاجزين عن فهم كل شيء.
عدنا نفحص الباب، وكان المزلاج مكسورا، والمفتاح في قفله كما توقعنا بسبب اقتحام الأبناء الغرفة من الخارج.
سألني هولمز وهو يجفف الدموع من تحت عينيه الملتهبتين:
- ماذا ترى يا واتسون؟
 نظرتُ حولي، كانت النوافذ محكمة الغلق من الداخل، ولا أثر لكسر اي منها. الحائطين الآخرين في الحجرة مكسوان بأرفف المكتبة. كان ثمة موقد فحم للتدفئة وليست مدفأة، لذا استنتجت أن القاتل لم يدخل من المدخنة. وكان الموقد لازال دافئا.
المكتب كان على جانب من جانبي الحجرة الطويلة ، والأرض مكسوة بالأبسطة الباهظة، فلو أن القاتل قد جاء من باب سري تحتها لما استطاع أن يعيد إليها انبساطها بعد رحيله. سألني هولمز:
- هل تصدق يا واتسون أن الأاربعة قد غادورا غرفة الاستقبال كلٌ في اتجاه قبل اربعة دقائق فقط من مقتل الرجل؟ انا لا أصدق ذلك...واتسون، هل أنت بخير؟
كنت قد هويت جالسا على كرسي مفعم بالكتب، كان قلبي ينبض سريعا ولم أستطع أن التقط أنفاسي. لم استطيع ان أبعد عيناي عن ظل أرجل المنضدة فوق البساط.
- لا ..اشعر ...أنني..بخير!
دخل ليستراد علينا ووجدني متعبا، سأل عن ما بي فأجاب هولمز:
- اعتقد ان عزيزي واتسون توصل لحل اللغز!
هززت رأسي موافقة، لم أتوصل لحل لغز القضية بالكامل، لكنني حللت اللغز..لغز الغرفة المغلقة.
- واتسون حل اللغز؟؟لقد قدم واتسون آلاف الحلول لمئات القضايا من قبل ولم يكن أيهم صائبا يا هولمز.
- أعرف عن واتسون أكثر مما تعرف..هذه المرة قد وجد الحل..أستطيع ان اعرف من توتره وتلك النظرة المحدقة على وجهة.
راح يعطس مجددا حين دلف القط ذي الأاذن المفقودة إلى المكتب، وهرع مباشرة نحو هولمز كأنه عشق وجهه القبيح!
قلت لهولمز:
- لو أن هذا ما تشعر به حين تحل لغزا، فأنا أشفق عليك! اريد أن اعرض عليكم كيف تمكن القاتل من قتل اللورد. لو سمحت أيها المفتش ليستراد، اتركنا قليلا.
جلس القط على فخذي هولمز فراح يعطس وتبقع وجهه بحمره شديدة. ابعد القط عنه وقال من بين أنفاسه المتقطعة:
- كن سريعا يا واتسون ولنترك هذا المكان اللعين!
لم يستطع هولمز التماسك أكثر، فهرع خارجا من المكان قبل أن يخرج ليستراد. وقف الأاخير عند الباب يقول لي ساخرا:
- هل ستأتي أم ستظل هنا؟
طلبت منه أن يتركي دقائق وحيدا، فأغلق الباب من خلفه ورحل.
كنت وحدي في مكتب اللورد هل مع القط الذي تكور في منتصف البساط ولف ذيله حوله وراح يحدق بي.
فتشت في جيبي عن بقايا خبز كنت أحتفظ بها لإطعام الحمام في الشارع، ووضعت قطعة تحت المنضدة الصغيرة ولفتًّ نظر القط إليها بوسوسة من بين أسناني، فسار نحوها يتفقدها. فتحت الباب سريعا وناديت:
- هولمز، ليستراد، تعاليا!
دخل الرجلان وعطس هولمز مجددا وقال:
- ليخرج أحدكم هذا القط اللعين من هنا!
- بالتأكيد، لكن اين هو القط اللعين يا هولمز؟!
بحث الرجلين تحت المكتب عن القط، لكنهما استنتجا إنني اريدهما ان ينظرا تحت المنضدة الصغيرة. لو أن حال هولمز أفضل لكان رأى ما أرمي إليه.
تحت المنضدة كانت تحفة جوري هل الفنية..
لحظات ورأي هولمز القط يخرج من تحت المنضدة ويتوجه إليه في محبة! لكن اين كان القط وكيف ظهر تدريجيا –رأس، جذع ثم ذيل- من الفراغ؟
قال هولمز بأنف مسدود بعد أن طردت القط خارجا وأغلقت الباب:
- يا الهي! كيف توصلت لهذه الخدعة المتقنة يا واتسون؟!
أشرت إلى البساط وإلى ظل المنضدة جواره وقلت:
- من هذا..
- يالي من أحمق! كيف مر علي ذلك!
- لا جناح عليك إن فاتك رؤيته مع شلال الدموع الذي ينهمر من بين جفنيك.
سال ليستراد في حيرة:
- ماذا بشأن البساط ؟ هلا تفسران لي!
- لا أقصد البساط، اقصد الظلال. الغرفة مصممة كي تكون مضاءة بشكل ممتاز عن طريق النوافذ، إلا أن اليوم كان غائما. انظر حولك وسترى أن لا شيء في الحجرة يلقي بظلال على الأأرض، فيما عدا أرجل تلك المنضدة!
ظل المطر اسبوعا كاملا، وحتى توقعات هولمز وتوقعات اللورد هل من عمله في الشحن كانت تقول إن الشمس ستشرق اليوم، لذا وضع القاتل الظلال على الأرض كي تناسب يوما مشمسا!
- من القاتل؟!
- جوري هل! من غيره؟
ركعت ومددت يدي تحت المنضدة لتختفي في الهواء كما اختفى القط. كان ثمة قماش مشدود بين أرجل المنضدة ومرسوم عليه بإتقان شديد ليتماهي مع الموجودات وكأان أسفل المنضدة فارغا. رسم جوري الفراغ تحت منضدة أبيه وتكور بجسده الضئيل خلف لوحته قبل أن يدخل اللورد هل حجرته للمرة أخيرا، ثم خرج من مخبئة وطعن اللورد.
وكما قال هولمز، فمفاجأة الوصية الجديدة لم تكن مفاجأة، ولم تكن اللوحة وليدة اللحظة، بل صممها جوري منذ زمن وتحين الوقت المناسب لاستخدامها..ربما رسمها منذ عام...
قاطعني هولمز:
- أو خمس أعوام!
- عندما طلب اللورد هل من عائلته الإجتماع صباح اليوم، علم جوري أن الوقت قد حان لتنفيذ مخططه. لقد استخدم جوري لوحته من قبل في التصنت على أبيه، وقد علم بشأن الوصية الجديدة فورا، فانتهز فرصة نوم أبيه ليلتها وتسسل مجددا إلى المكتب وغير وضع الظلال على الأرض، والتي هي كما ترون قصاصات من قماش أسود، بحيث تلائم المكان الذي ستكون عليه في الحادية عشر صباحا، اي وقت اكتشاف الجريمة. بالطبع كان يظن ان اليوم سيكون مشرقا وستلقي الطاولة ظلالا تحتها.
تسائل ليستراد:
- لازلت متعجبا، كيف دخل جوري إلى هنا صباح اليوم دون أن يره أباه!
- حجرة الاستقبال حيث التقى اللورد بعائلته لها باب يتصل بحجرة الموسيقى اليس كذلك؟
رد ليستراد:
- وحجرة الموسيقى تتصل بباب مع حجرة السيدة هل الصباحية وهي الحجرة الثالثة في صف الحجرات المتجه إلى نهاية المنزل. الحجرة الصباحية تؤدي فقط إلى الردهة الخارجية يا دكتور واتسون. لو أن لمكتب اللورد باب آخر ما كنت استدعيت هولمز في يوم كهذا!
- عاد جوري إلى الردهة، لكن والده لم يره. 
أمسكت عصا اللورد واشرت بها إليهما وأكملت:
- بمجرد ان خرج جوري إلى الردهة، ودار عابرا الحجرات بسرعة وعاد إلى مكتب ابيه قبل أن يسير أبيه ببطء ويتوجه إلى مكتبه. لذا ظن الجميع ان جوري رحل ولم يخطر ببالهم أنه قد سبق أبيه إلى المكتب. لقد علم جوري بأمر مرض أبيه وعلم بأن سرعته في المشي ستكون بطيئة للغاية.
صاح هولمز في اعجاب وهو يكيل نظرات التشفي للسيتراد:
- الطبيب على حق! بعد أن استدار الأب كي يعود لحجرته، ظل الأربعة لثوان في أماكنهم، ثم اندفع جوري خارجا وأستطاع ان يدور حول حجرات المنزل ويسبق أبيه. اراهن على ان معه مفتاح للمكتب يستطيع من خلاله الدخول والخروج بسهولة. أضف لهذا ان اللورد قد قابل خادمه ووقف معه بعض الوقت قبل أن يدخل مكتبه. دخل الورد المكتب واغلقه خلفه وجلس على مكتبه بينما يراقبه جوري في حذر ويحاول أن يعرف أي الوصيتين الجديدة، وكان هذا أمرا يسير التمييز من لون الورق وقدمه.
كان يعلم أن ابيه سيلقى الوصية القديمة في النيران، وراح ينتظر أن يتيقن من نيه أبيه، فربما كان الأب يمازحهم مزاحا ثقيلا ليختبر صبرهم وولائهم، أو انه سيحتفظ بالوصية القديمة رغم كل شيء. ربما سيحرق الجديدة.
مرت دقائق حتى قام اللورد هل ممسكا بالوصية القديمة متوجها نحو موقد الفحم، فقفز جوري من مكمنه وطعن أبيه في ظهره قبل أن يبتعد عن مكتبه أكثر، فسقط اللورد جالسا منكفئا على الوصية. سيستطيع الطب الشرعي تحديد سبب الوفاة ومعرفة طول القاتل تقريبا. أظن أن اللورد لم يمت فورا، وإلا ما أستطاع الصراخ.
لكن جوري لم يكن قد صنع لوحته ومخبأة إلا بغرض التصنت، ففكرة ترتيب القتل في غرفة مغلقة لا جدوى منها إلا عند محاولة إثبات أن القتيل مات منتحرا لا مقتولا. اما وهو الحال في قضيتنا، فالقتيل مات مقتولا بطعنه من الخلف.
على الأاغلب كانت خطة جوري يومها هي قتل الرجل وحرق الوصية الجديدة ثم القفز من النافذة والعودة للمنزل من الباب، ليبدو الأمر كقتل وسرقة. لكن اللورد هل صرخ وأفسد كل شيء. لابد وان جوري كان في فزع عظيم، لكن ستيفين هل هو من أنقذ الموقف..قتل كهذا لم يكن ليتم دون معاونين. قال ستيفن أنه قد قابل جوري عند مدخل المكتب، لكنه كذب. كذب لحماية أخيه ولجعل ما حدث يبدو مستحيلا. 
لقد خطط الشابين لكل هذا معا، وكليهما مدان بقتل أبيه أمام القانون.

قال هولمز:
- ليس كليهما يا عزيزي واتسون، كلهم!
وصمت من الصدمة..أومأ هولمز وأكمل قائلا:
- لقد أظهرت مهارة اليوم يا واتسون، واشتعلت بحماسة المحققين التي لن تجربا مجددا! اخلع لك القبعة يا صديقي. لكنك بعد صديقي الطيب الذي لا يعي أن في العالم شرورا أكثر مما يتخيل. من شهد بأن جوري كان مع ستيفين وقت كسر الباب؟ ستيفن و...من  يا ليستراد؟
- وويليام، الذي رآهما أمام الباب حين نزل من حجرته.
- ممتاز! ستيفن هو من كسر الباب، لكن أحدا لم يفكر في السرعة التي وصل بها إلى المكتب، لكن ويليام شهد انه رآى جوري يدخل المكتب أولا..لماذا يا واتسون؟
لنسأل سؤالا آخر، من هو الشاهد الوحيد الذي لا يعد واحدا من العائلة؟ خادم الورد أوليفر ستانلي. وصل إلى سلم المرسم ورآى ستيفن يدخل الحجرة، ستيفين فقط! بينما إدعى ويليام أنه كان يملك زاوية رؤية أفضل ورآي جوري يسبق ستيفن دخولا إلى المكتب. شهد ويليام بهذا لأنه رآى ستانلي وعلم أنه سيقول أنه رآى ستيفن فقط...
الخلاصة يا واتسون: نحن نعلم أن جوري كان بداخل المكتب، لكن أخويه شهدا بأنه كان خارجه..هذا خداع. تكاتفهم بهذا الشكل يوضح صورة أكبر وأخطر.
قلت بصوت عال:
- مؤامرة!
- بالضبط! هل تذكر يا واتسون حين سألتك إن كنت تصدق حقا أن أربعتهم قد خرجوا من حجرة الإستقبال كل في إتجاه دون أن يتبادلوا كلمة واحدة بعد أن سمعوا باب المكتب يُغلق من الداخل؟
- نعم أذكر.
- جوري كان يعرف ما عليه فعله، وخرج سريعا ودار حول الطرقات كي يصل إلى المكتب قبل أبيه، لكن الأربعة شهدوا بأنه كان معهم حين سمعوا باب المكتب يُغلق. مقتل اللورد هل هو شأن عائلي خالص يا واتسون.

نظرت إلى ليستراد ورأيت تعبيرا من الهم والتعب على وجهه لم أره من قبل. سأله شيرلوك:
- ماذا نتوقع لهم كعقوبة؟
- سيُعدم جوري، وسيسجن ستيفين مدى الحياة. ربما ينجو ويليام بعد قضاء عشرين عاما في السجن. السيدة هل ستسجن هي الأخرى نحو خمسة أعوام.
قال هولمز وهو يمسح بيده على اللوحة المشدودة تحت المنضدة:
- كل هذا لأن جوري لم يرشق سكينه في المكان المناسب..لو أن اللورد مات في صمت لنجا الجميع. كان ليقفز جوري من النافذة ويأخذ لوحته وظلاله القماشية معه. أين كان الشرطي حين أستدعاه ستانلي الخادم لتفقد القتيل؟
- أقرب مما تتوقع، كان يمر في نوبة حراسته المعتادة حين سمع صرخة اللورد هرع إلى المنزل..عائلة منحوسة!
سألت هولمز في حيرة:
- كيف عرفت أن الشرطي كان قريبا من المنزل؟
- الأمر في غاية البساطة..لو لم يكن قريبا، لكانت امتلكت العائلة وقتا لصرف الخدم من الحجرة والتخلص من اللوحة والظلال.
أضاف ليستراد:
- ولفتحوا نافذة واحدة على الأقل.. فقط من هم في سواد قلب اللورد هل يجدون في أنفسهم عزما لإطلاق صرخة أخيرة كهذه.
قال هولمز: 
- فقط من هم في سواد قلب اللورد هل يخلقون لأنفسهم أعداءً من أبنائهم.
نظر هولمز لليستراد وأردف:
- ماقولك يا ليستراد؟ لقد حل واتسون هذا اللغز، هل ننترك له القرار بشأن العائلة؟
- ليفعل ما يراه صائبا، اللورد هل كان شيطانا..فقط لنخرج من هنا سريعا.

إنحنيت وجمعت الظلال القماشية وكورتها ودسستها في جيبي، كنت أرتعد كالمحموم. أعتقد أنني اتخذت القرار الصائب..أعتقد.
صاح هولمز وهو يفك اللاصق الذي يثبت اللوحة إلى المنضدة:
- لقد حللت أول قضية لك ايها البطل، وهاك هدية لنفسي، لوحة أصلية من ابداع الفنان جوري هل. أعرف أنها بلا توقيع لكن علينا أن نقنع بما أرسله الرب إلينا في يوم مطير كهذا.
طوى هولمز اللوحة ودسها في جيب معطفة الواسع. خطا ليستراد نحو احد النوافذ وفتحها وهو يقول:
- هذا عمل قذر..
قال هولمز:
- بل قل أنه محو لعمل قذر..هل نرحل الآن أيها السادة؟!

عبرنا باب المكتب خارجين، سأل أحد أفراد الشرطة المفتش ليستراد إن كنا قد توصلنا لشيء، فقال الأخير في ثقة:
- تبدو كمحاولة سرقة آلت إلى قتل غير مقصود..لكن نشكر الله على صرخة اللورد هل التي أخافت اللص ودفعته للهرب قبل أن يسرق أي شيء.


ابتعدنا عن المكتب، وكانت باب حجرة الاستقبال مفتوحا، لكنني ابقيت رأسي منكسا وأنا أعبر أمامه..لم أكن أريد ان أرى أي من أفراد العائلة.
عطس هولمز مجددا، كان رفيقه ذو الأذن الواحدة يسير حول قدميه، فصاح هولمز متوترا:
- أخرجوني من هنا!
__________________
خلال ساعة كنا في منزلنا في شارع بيكر، وكان هولمز جالسا كما كان جوار النافذة. سألني:
- هل تظن أنك ستكون قادر على النوم بهدوء الليلة يا واتسون؟
- قطعا..وانت؟
- مثلك..أنا سعيد بخلاصي من تلك القطط وسأعتبر هذا إنجاز اليوم.
- ترى هل سينام ليستراد؟
نظر لي هولمز مبتسما وقال:
- ربما عانى الأرق لبعضة ايام، لكنه سيكون بخير..من ضمن مواهب ليستراد قدرة عظيمة على النسيان.
ضحكنا كثيرا، ثم نظر هولمز من النافذة وناداني:
- واتسون..هناك منظر رائع بالخارج!
لسبب كنت كنت أخشى أن أرى ليستراد يترجل مرة أخرى من العربة، لكنني رأيت شيئا آخر..رأيت الشمس تشرق أخيرا و تغسل بضوئها شوارع لندن.

النهاية


Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

عشرة ‏أيام ‏في ‏مصحة ‏عقلية ‏- ‏تأليف ‏نيلي ‏بلاي (كامل)‏

إهداء- ‏ستيفين ‏كينج- ‏ترحمة: ‏شيرين ‏هنائي

الغلاف ‏الأخير- ‏شيرين ‏هنائي