الحلقة الاولى- ‏سيرسي

سيرسي!
تأليف: جيسيكا بينوت

الفصل الأول

عندما يلتقي مِسخ بمِسخ، يكون على أحدهما أن يستسلم..
من يستسلم لن يكون أنا..

تينسي ويليامز
__________________________

الطريق لمؤسسة سيرسي العلاجية مكانش أكتر من ممر بين المستنقعات الي كانت بتاكل حدوده من اليمين والشمال. نباتات المستنقع وشجيراته المتشابكة بتخنقك صوابعها الخضرا الرطبة. الماء كان راكد، ترقد فيه الحشرات وبقايا الحيوات. التمسايح بتستخبى ورا الحشائش الطويلة وبتستنى في هدوء، ممكن تشوفها بصعوبة في ضوء النهار.
المؤسسة نفسها تبان كأنها نامية من التربة، كأن الطبيعة نفسها هي اللي زرعتها هنا. من مسافة بعيدة ممكن تشوف برج المراقبة الطويل المائل المحطم. رغم سنين خدمته الطويلة محدش فكر يصلحه أو يصلح أي مبنى من المباني القديمة للمؤسسة. المباني الي فضلت واقفة في صمت تسمع صراخ المجانين.
كاسي مرة قالتلي إن أرواح قديمة غاضبة هي الي بتحرس القلعة، الي تحولت لاحقا للمؤسسة. الأرواح دي حراسها من الأطباء والمرضى. عمري ما صدقتها، ونادرا ما بصدق أي حاجة بتقولها، بس على طول بنصت لها..براقب شفايفها الشاحبة وهي بتتكلم عن كل الفلسفات الغريبة الي مالية دماغها. 
كاسي بقت بالنسبة لي سيرسي، مش سيرسي الساحرة الي أغوت أوليس في الأساطير، كاسي بقت هي المؤسسة بحوائطها الحجرية الباردة..خيال بسطوة البيوت المسكونة، أو الأحلام الضايعة.
 المكان إسمه "سيرسي"، غالبا إتسمى على إسم رجل إقطاعي بشنبات رمادي مبرومة وعشق للعنصرية. 
دكتور كليمنت ريتشارد كلاك، كان عنده رؤية ما ورا تحويل قلعة مهجورة  .
.CRC . لمؤسسة تحمل أول حروف من إسمه 
لكن مع الوقت الحروف بقت بتتنطق سيرسي والمستشفى خلاص بقا إمسها سيرسي.
بعد ما تلقيت أو درس ليا في الأساطير، عرفت إن سيرسي هو إسم ساحرة أسطورية غريبة بقدر غرابة مستشفى تحمل إسمها.
مستشفى سيرسي كان لها سطوة علينا كلنا، على اللي شغالين فيها سواء حسوا بده أو لا. أول مرة وقع نظرنا على حوائطها المهدمة المشققة حسينا بغموض ماقدرناش نوصفه. المكان كان فيه ضباب زيه زي أي مكان حوالين مستنقعات جنوب ألاباما، والهوا كان كثيف وسخن..لكن برغم كده كنا منقادين لها لأنها كانت مستقبلنا.
بعد قضاء فترة تدريبنا كأطباء هنا، هانخرج منها محترفين مش مجرد خريجين جدد، هانخرج أطباء نفسيين نعالج العقول والنفوس، هانكون مشعوذي العصر الحديث!
الغموض الي حسيت بيه في سيرسي في اليوم الي وصلنا فيه لها، كان نابع من روحي بنفس القدر الي كان نابع به من المستنقعات، والإحساس ده كان عندنا كلنا، لكن ده كان مستقبلنا ولازم نستحمل علشانه.
اول ما قربنا المبنى كان مستخبي ورا غلالة من الضباب، مكانش باين غير ساحة مبيت العربيات المحاطة بالأسواء الشائكة. كانت ساحة قبيحة زيها زي أي ساحة مبيت عربيات. قدامها كان في صندوق بريد، وكان في طاووس أزرق فارد ديله الملون وبيستعرض جماله وكأنه بيحرس الساحة الكئيبة. الطاووس لفت نظرنا..طاووس في مستشفى؟ منظرة كان عامل زي السمكة في الصحرا. في الأول إفتركت إنه تمثال أو مجسم ملون بيداروا بيه حاجة، بس إتحرك! شهقت ورجعت لورا وضحكنا كلنا، ضحكنا على وجوده في آخر مكان نتوقعه.
بدأت حوائط سيرسي البيضا تظهر بالتدريج قدامنا وكأنها جزء من المستنقع. حوائطها الي إستحملت –كقلعة- أسابيع من القصف بالمدافع والي دلوقتي إتدهور بها الحال لإنها تبقا مستشفى أمراض عقلية.
للمستشفى تلات بوابات، منها بوابة بتقودك من ساحة الإنتظار.للمدخل الرئيسي. كل شيء حوالين المدخل كان جميل، نافورات عتيقة بترش ميه مصدية في الهواء، زهور في أحواض على جانبي الممشى، شجر ضخم حوالين الحديقة، كل ده بيحوط المدخل المؤدي للمكتب الرئيسي، والي بيشاع عنه إن الثوري جيرونيمو إتحجز فيه أثناء محاكمته. المبنى القديم كان عبارة عن سجن ومخزن سلاح، دلوقتي إتغير تماما بكل لوحات الأزهار والأطفال المتعلقة على حيطانه، وموظفات الإستقبال المبتسمات ورا مكاتبهم في إستقبال المرضى في نفس المكان الي كان بيتم إستقبال المحكوم عليه بالإعدام فيه.
في تغييرات كتير حصلت وإتقفل ممرات وإتفتح ممرات تانية لتسهيل وظيفة المبنى الجديدة وتيسير الإنتقال بين أقسامه.
كان في مبنى تاني، قديم ومظلم مبني بالطوب الأحمر، مصمم على الطراز الفيكتوري. شبابيكه الضخمة مُطلة على الساحة. 
كاسي قالتلي إن المبنى إتبنى مع مطلع القرن الحالي، وفضل مهجور فترة طويلة لسمعته وتاريخه المريبين.
الأثاث والأجهزة الحديثة مكانتش لايقة خالص مع المكان. على الجهة المقابلة للبرج، كان مبنى كاسي، وفي نهاية مبنى المستشفى كان قسم الحالات المزمنة المطل على مساحة أرض فاضية، سكان القسم من المرضى أبعد مايكونوا عن الواقع، وعودتهم لعقلهم مستحيلة.
بالنسبة لي، كل شي بدا هنا، رحلتي، مسيرتي.. أما بغمض عينيا مابشوفش غير المكان ده بيبصلي من ورا الضباب. لكن كان ليا حياة خاصة بره الجدران دي، وحياتي مابدأتش في سيرسي، بدأت مع مراتي، مراتي الجميلة.
ساعات كنت بسأل نفسي (أنا كنت مين؟) كنت بني آدم خاوي، خاوي وجشع. كنت دايما بدور على حاجة بعيدة عني. إتجهت لدراسة علم النفس لأن أبويا كان طبيب نفسي ولقيت نفسي في العلم ده. كنت متفوق، نابغة، حتى إني سجلت في أفضل برامج علم نفس الإكلينيكي في البلد. إخترت أسافر للشمال لأاني كنت محتاج اشوف عالم مختلف، وأخدت مراتي معايا رغم علمي إنها مابتحبش الشمال. أخدتها معايا رغم معرفتي قد إيه بتحب الاباما. فضلت تعيط وهي بتجمع حاجاتنا، وعيطت طول الطريق، لكن عمرها ما لامتني على الأاربع سنين التالية، عمرها ما لامتني على حياتنا في ديترويت.
الليلة الي قولت لمراتي فيها إن تدريبي هايكون في سيرسي كان في راس السنة، كنت بشتغل على بحث مهم وماكوناش سافرنا لعائلاتنا في العيد. بريا، مراتي، دعمتني نفسيا وماديا طول فترة أبحاثي. ليلتها جتلي وأنا قاعد بذاكر ولفت دراعتها حواليا وقالت لي:
- كريسماس سعيد..
- الكريسماس جه؟!
سألتها وما بصلتهاش وأنا بسألها، وكنت أتمنى لو كنت بصيتلها، لو كنت أقدر أفتكر تدويرة خدها المنور في ضوء شاشة الكومبيوتر. كنت أتمنى لو شوفت إنحناءات جسمها على خلفية من أنوار الكريسماس الي كانت معلقاها وراها، وكانت بتضوي ورا شعهرا الأسود الخلاب..لكني مابصيتلهاش وكملت كتابة، كملت شغل..
قالت بصوت حزين:
- أيوه..ممكن نفتح الهدايا؟
- جهزي كل حاجة وهاحصلك بعد ما أدخل الأرقام دي على الكومبيوتر.
بريا كانت خليط من التناقضات، أمها كانت من شمال الهند وأبوها إتولد وعاش في الاباما. بسبب إختلاف داينة الأام والأب، ربت أمها بريا على تعاليم الإسلام، وحاول الأب تربيتها على تعاليم المسيحية. بريا كانت مؤمنة بالدينين ومتشككة في الإثنين. ممكن تلاقيها بتتكلم عن المسيح عيسى والنبي محمد في نفس العبارة، وكانت بتمارس العبادات الي بتحسسها بالقرب من الله من الدينين. كانت بتصوم رمضان( غالبا لأن الصيام بيخسسها) وبتحفل بالكريسماس زي الكتاب ما بيقول. شخصيتها كانت زي إيمانها، كانت ذكية جدا لكن ساعات بتستغبى، كانت كل الستات في نفس الوقت: مستقلة، معتمدة على غيرها، متطلبة، متعاطفة، مدمنة على الثقافة الحديثة بس بتعشق تقاليد أمها القديمة، كانت بتلبس أشيك ملابس مودرن، وتاني يوم تلاقيها لابسه ساري هندي..بريا كانت كل شيء بالنسبة لي وكنت بعشقها.
بعد ما خلصت شغلي، روحت لغرفة المعيشة في شقتنا الضيقة، ولقيتها قاعدة مبتسمة ومستنياني.
مراتي كات جميلة جدا، وسطها كان رفيع وحوضها عريض، وصدرها ممتليء. بشرتها غامقة لامعة زي عينيها، وكنت بقولها إنت إلهة الخصوبة، وكانت بتزعل مني. كانت بتفهم من كلامي إن قصدي إنها تخينة لكن ده مكانش قصدي أبدا. جسمها المشدود كانت بيخليها مثيرة جدا، وخليط الأعراق في دمها خلا جمالها مشع وفريد.
قعدت جنب الشجرة معاها وقلتلها:
- هاتطلع هديتك فاضية السنادي.
- إنت الي هديتك هاتبقا فاضية! علشان سايب مراتك على طول وبتشتغل طول الوقت.
 - إزاي ممكن أسيبك؟
- حبيبي التاني قال لي إنك سايبني.
- إيه ده بقا؟ تعرفي حد غيري؟
- مش حد واحد..عشر رجالة زي القمر، وكل واحد فيهم كان بيعشمني يوديني الاباما في العيد.
إختفت الإبتسامة من على وشي، هزارها كان مؤلم..
- آسف..كان نفسي اوديكي لعيلتك العيد ده.
- ما تتأسفش..أنا كنت عارفة حياتي معاك هاتكون إزاي من قبل ما نتجوز. إنت عمرك ما كذبت عليا وأنا ماندمتش على جوازنا أبدا.
باستني، ونسيت كل حاجة عن شغلي وضغطي، كان عندها القدرة السحرية دي. قلت لها:
- إفتحي أول هدية لك مني بقا.
فتحت العلبة الصغيرة، ولقت ورقة جواها. قراتها وضحكت وحضنتي في براءة وإتحولت ضحكتها لبكاء وهي بتقول لي:
- شكرا شكرا شكرا! بس متأكد؟! أقصد إنت ممكن تقضي فترة التدريب في أحسن مكان في أمريكا كلها.
- مش عايز أحسن مكان في امريكا..أنا عارف قد إيه المكان هنا مضايقك ومش هاقدر أبعدك عن بلدك اكتر من كده.
- لا مش مضايقني خالص! بحب التلج وزحلقة العربية عليه والحوادث.. وبحب حقيقة إني بترعب أخرج أمشي الكلب بعد الساعة خمسة! مكان يتحب فعلا!
- على طول تهزري كده.
- الهزار هو الي خلاني أستحمل الأاربع سنين الي فاتوا.
- هو المضوع كان وحش أوي كده؟
- لا مش أوي..أنا بس بكره البرد وبلدي وحشتني.
- يبقا بينا على  بينتلالا، الاباما!
- هي في أماكن ممكن تاخد فيها فترة التدريب في الاباما أصلا؟المكان مش قريب لبيت أهلي بس أهو، على الأقل هانبقا معاهم في نفس الولاية.
- بنتلالا هي المكان الوحيد المتاح فيه مستشفى مناسبة..ها..مش هاتفتحي باقي الهدايا؟
كان كريسماس جميل، كانت سعيدة وأنا قدرت أخيرا أسعدها. ماكونتش عايز أرجع الاباما، كنت سعيد في دترويت وبحب كل تفاصيلها وبردها وهدوئها وأهلها الي كل واحد في حاله. لكن في الاباما كل الناس تعرف بعض، وتحضن بعض في الشوارع وتسأل على بعض كل لحظة.
عموما مش مهم، الاباما مكان زي أي مكان تاني.
_______________________



Comments

Popular posts from this blog

عشرة ‏أيام ‏في ‏مصحة ‏عقلية ‏- ‏تأليف ‏نيلي ‏بلاي (كامل)‏

إهداء- ‏ستيفين ‏كينج- ‏ترحمة: ‏شيرين ‏هنائي

الغلاف ‏الأخير- ‏شيرين ‏هنائي