الحلقة ‏الثانية- ‏سيرسي

سيرسي!
تأليف: جيسيكا بينوت
الحلقة الثانية
أجرت أنا وبريا بيت صغير في موبيل، وكان مكانه جوه أحراش الأأشجار المميزة للجنوب. ذقن العجوز ( نبات الطحلب الإسباني) نازلة من أغصان الشجر العملاق، ولامسة الأارض بأطرافها الجافة المسودة. عناكب الموز عايشة في مستعمرات متعلقة فوق رؤوسنا في الجنينة، بس مكانش عندنا مانع في العناكب إللي قد الكف طالما بتبعد الحشرات الضارة الي قد التليفون، كمان كانوا بيشكلوا (شبكة حماية) على حسب تعبير مراتي. هي متخيلة إن العناكب دي بتطرد الناموس والذباب من البيت، حتى إنها ساعات كانت بتحطلهم أكل وبتقول إنهم (رجال مكافحة الحشرات) بتوعنا!
قبل ما أستلم شغلي، قعدت أنا وهي تحت ظلال العناكب في الجنينة نشرب الشاي ونتكلم. كلبنا كان كل شوية شبكة العناكب تلزق فيه ويطلع يجري علينا وهو متكعبل فيها، وبريا كان بتضحك عليه وبتضحك عليا علشان بغضب من تصرافته وجريه علينا وهو ملزق كده. بكره أحمي الكلب كل شوية ومابحبوش يدخل البيت مش نضيف.
أول أسبوع قضيناه في موبيل، صحابتنا وعيلتنا دلعونا وملوا البيت هدايا وأكل وغمرونا بالترحيب. أما بكره كده، وبكره دخول الناس وخروجهم طول الوقت من مساحتي الخاصة وبيتي كأنه بيتهم. أم بريا وصحابها وأهلها كانوا عندنا طول الوقت وده خنقني وخلاني أشتاق للبرد والوحدة في دترويت.
بريا كانت بتطبخ لهم وتأكلهم في طقم الصيني بتاعنا، كانت بتدبهم مفاتيح البيت وتنبسط أنا بيدخلوا علينا من غير ما يرنوا الجرس. كل الي كان ممكن أعمله هي إني اقعد في الركن، وإستنى يوم إستلام شغلي. أصواتهم ورغيهم في كلام فاضي كان بيوترني..رغي عن الأاكل والهدوم وطنط فلانة الي مصاحبة علان، والناس في الهند كانوا بيعملوا معرفش إيه إزاي..إلخ.
بعد اول إسبوع حسيت إن تايه، والتوهان إتحول لغضب، غضب لأني ضحكيت بشغلي ومستقبلي علشان أقعد في الركن أتفرج على بريا بترغي مع كل شخص في الكون. لذلك كان لازم أفصل، فروحت مع أخواتي لنيو أورليانز.
أنا واحد ضمن تلات أخوات، والإشاعة الي بتقول إن الجنوبيين متخلفين ومش متعلمين هي مرجد إشاعة، فينا كتير متعلم وفي مناصب عليا...لكن للأسف إخواتي مكانوش ضمن الكتير المتعلم اللي في مناصب عليا. مكانوش متعلمين ولا ناجحين. جيرمي أخويا الكبير كان شغال في شركة كهربا، وجيف أخويا الصغير كان بيتنقل كن وظيفة لوظيفة، ومحدش فيهم غادر الاباما. كانوا بيحبوا الشواطيء المطلة على الخليج، الرمل السخن والشرب ومشاهدة غروب الشمس كان كل تسليتهم في الحياة. كان طموحي أكبر من كده بكتير، وعملت كل الي أقدر عليه علشان أمحي اللكنة الجنوبية من كلامي، وبذلت كل جهدي علشان أحقق حلم والدي وأتبع خطاه العلمية.
زي ما ذكرت، رحت مع أخواتي نيوأورليانز، الي مكانتش مختلفة أوي في الثقافة عن نشأتنا، وقضينا أغلب الوقت في البار بنشرب أو بنتفرج على البنات الي ترفع هدومها لأاي حد يديها عقد خرز بخمسين سنت.
أخدنا أوضه في أوتيل بسيط وماقعدناش فيها أكتر من عشر دقايق، ونزلنا بعدها الشارع والشاطيء واي مكان مش مقفول. سألني جيريمي بلهجته الجنوبية التقيلة:
- مستغرب إن بريا سابتك تسافر.
- بريا كانت ممكن توديني كباريه بنفسها علشان ترد لي جميل إني رجعتها الاباما.
- بس برضك أكيد مكانش يخطرلها على بال إننا هانقضيها من الكباريه ده للماخور ده!
- محدش قال لي والله قبل ما نسافر!
- طولت إنت في الجوازة دي.
- طولت لدرجة إني مابقاش ينفع أتفرج على شوية بنات بتعك في اي حركات قال يعني إغراء.
- هو في حاجة تتعمل تاني هنا وماعملناهاش!
ضحك جيرمي، قفال جيف:
- لا في..ماتنسوش محلات الفودو ( الفودو نوع من أنواع السحر) و الكاريوكي.
بدات اللكنة الجنوبية ترجعلي وأنا بهزر معاهم وبفكرهم إنهم كمان متجوزين وهاتبقا "حوسة" لو "مراتاتهم" عرفوا. القعدة مع إخواتي بتبهدل وقاري فعلا. قال جيريمي:
- بس يالا..مراتك حطاك في جيبك وخلتك تسيبك مستقبلك وتجري وراها في الاباما.
- أنا ماجيتش معاكم علشان تفضلوا تقطموني..مش كل واحد فيكوا كان بيجيلي يشتكي من مراته الي ممشياه على العجين ما يلخبطهوش! دلوقتي مراتي أنا الي بقت حطاني في جيبها!
ضحك جيف وقال:
- والله عندك حق..مراتك حلوة الدور والباقي علينا!
إتقفل الموضوع على كده وشوفنا بار قعدنا فيه، شربنا وضحكنا وإتكلمنا في أي مواضيع تافهة، وللحظة حسيت إن ماينفعش أحكم عليهم، هم عايشين بطريقة وأنا عايش بطريقة، ومافيش حد أحسن من حد.
من اربع سنين بس مكاونتش هاقدر أوصل للإستنتاج ده.
خرجت أمشي في الشوارع وسط المخمورين وفتيات الليل. بنات بتعري نفسها مقابل عقد خرز، رجالة بترجع على جانب الطريق. خرجت من الزحمة للميدان الي كان مليان قارئات طالع، واللي معظمهم كان من المراهقات الي قرولهم كام كتاب سحر من على الرصيف وجم يشتغلوا السياح هنا. منهم الي شبه المرضى العقليين، في كل الحالات محدش فيهم كان نبي ولا مكشوف عنه الحجاب.
وقف قدام الكاتدرائية أتفرج على الناس واتخيل تشخيص لحالاتهم النفسية...لكني ما شوفتهاش من الأأول...
كانت جزء من الزحام، لكن مجرد ما شوفتها بقا مستحيل بالنسبة لي اشوفها جزء من اي شيء. عينيها الخضرا كانت بتبصلي وخلت الأافكار تتبخر من دماغي. شعرها كان قصير جدا، وكان متناثر على راسها في خصلات حادة كأنه ريش مصبوع بلون إسود مزرق بيضوي تحت ضوء عواميد النور.
إلتفتت وإبتسمت لي وضهرها لسه ليا، كانت لابسه بلوزة مفتوحة وكاشفة ضهرها كله، وعيون طاووس خضرا بتبص لي من وشم مغطي ضهرها كله. مشيت ناحيتها من غير ما أفكر ليه، وهي ماشالت عينيها من عليا. أما وصلتلها ما سلمتش عليا ولا كلمتني، مسكت إيدي وكأنها هاتقرالي الكف. كان صعب تعرف سنها، كانت عاملة زي العفور الصغير، وجلدها كان ناعم وبارد.
- هاتموت صغير!
- لا كده مش شايفة شغلك..المفروض تقوليلي كلام ضبابي إيجابي عن مستقبلي علشان أفرح واديكي فلوس أكتر..لازم تعرفي أنا محتاج اسمع إيه وتقوليهولي..
- إنت ماعندكش إيمان كافي بفن قراءة الطالع.
- لو عايزاني أؤمن..أؤمن..
بصتلي بثقة شديدة خليتها مغرية أكتر وأكتر، وكانت عارفة تأثيرها على الرجالة كويس.
- عايز تسمع باقي حظك؟
- لو كنت إنت حظي، اسمع.
- ما أفتكرش، أنا شايفة ستات كتير في مستقبلك.
- ستات كتير في كفي؟!
- لا..شايفاهم في هالتك االروحانية، ست سمرا، شكلها مش أمريكي، وست شقرا بعيون زرقا وهي دي حظك ومستقبلك.
- إنتي بتقولي إني هاسيب مراتي؟
سألتها في سخرية. كانت يتتكلم بطريقة غامضة بحيث أي حد يتخدع في تنبؤاتها، كل راجل نفسه في واحده شقرا بعيون زرقا. بس شخصيا ما كونتش مؤمن بتنبؤاتها أكتر من إيماني بوجود إله من ألأاساس.
- أنا ماقولتش كده، أنا بقول إن الست السمرا مالهاش مستقبل..أنا شايفاك مع الست الشقرا قدام شاطيء في جو عاصف.
- وهاقبلها إمتى الشيطانة الشقرا دي؟
- قريب.
- خسارة إن عيونك مش زرقا، كان هايبقا أحسن لو قضيت آخر عمري القصير معاكي.
ضحكت وقالت:
- كنت فاكراك متجوز.
- لحد ماشوفتك.
- حسابك عشرين دولار.
إديتها اللفوس وقولتلها:
- ممكن نشرب قهوة سوا؟
- عندي شغل.
- ممكن برضو تشتغلي، تقوليلي مستقبلي..هاموت وأعرف هايبقا عندي كم إبن مثلا..ثم إنك ما كلمتينيش كفاية عن الشقرا الي هاسيب مراتي علشانها واقضي باقي حياتي معاها.
- هاحتاج اقرا الودع علشان أعرف التفاصيل دي..بس قرايه الودع غالية.
- محتاج أعرف.
- الودع في شقتي.
الموضوع كده بقا! مشيت وراها في متاهة من الحواري المتشابكة وقلبي في رجليا. ماقلتش حاجة بس الفرجة عليها وهي مشاية قدامي كانت كفاية علشان تبوظ أعصابي. هي نفسها ما أثارتنيش قد ما المخفي عنها أثارني..غموضها..تلميحاتها.. كل شيء مخفي ومحرم منها. ماكونتش قادر أستى لحد ما نوصل شقتها، لازم تفهم إني كنت سكران وفي الوقت ده كانت بتمثل لي كل حاجة سبتها في ديترويت..كانت الرصيف المبلول بالمطر والوحدة والبرد والهدوء..كان بدون أهل ولا صحاب ولا طالبة تضحيات ما أقدرش أتغافل عنها بدون عواقب. ماكونتش حاسس ناحيته بالذنب علشان أهملتها ولا علشان أخدتها معايا بعيد عن أهلها.. كانت شخص مجهول في الظلام.
زقيتها ناحية الحيطة، ودفت شفيفي في شفايفها، مكانتش قادرة تتنفس. كانت نحيلة وجسمها عظمي وناشف مش طرية زي مراتي. حسيت بدراعتها حواليا وماقدرتش اسيطر على نفسي.. خلعت هدومها وكل شيء خلص قبل حتى ما تنطق.
لبست هدومها وإختفت في الضلمة بدون أي كلام. ركنت على الحيطة وبدأت آخد نفسي بعمق..ماحسيتش بحاجة إلا السلام..
مكانش أول مرة أعمل كده، كل مرة كان مع ست مختلفة ما اعرفش عنها حاجة ولا مهتم أعرف، بالنسبة لي كانت علاقات غير ضارة ولا مؤثرة ولا ممكن حد يعتبرها خيانة..مكانتش تفرق عن الرجالة الي بتنام مع زوجاتهم وهم بيتخيلوا ست تانية. كانت جي الطريقة الي بفضل بيها وفي لمراتي، وأما كنت بنام معاها مكانش أي حد بيخطر في بالي إلا هي.
رجعت الأوتيل وإيديا في جيوبي، وصورة البنت أم وشم طاووس بتروح من بالي بالتدريج وسمحت لنفسي أفكر في فترة تدريبي.
هايكون في إثنين من المتدربين معايا في سيرسي، ست ورجل. كان معايا أرقام تليفوناتهم بحيث نقدر نرتب مواعيدنا ونروح ونرجع سوا لأن المسافة طويلة وركوب عربية واحد مع تقسيم تمن البنزين كان الحل الأفضل.
دخلت الأاوضة وكان إخواتي لسه ماجوش، نمت على السرير وفي بالي إزاي أتفوق في سيرسي، ومكانش في بالي أي شيء تاني.
_____________________________________
أما رجعت البيت، حسيت بالذنب..
بريا كانت مشت كل الناس ونضفت البيت وحضرتلي العشا على ضوء الشموع. كانت زي إلهة هندية فائقة الجمال بالساري ده، مجرد النظر لها خلاني اندم على كل واحدة عرفتها طول عمري.
قولت لنفسي: إنا عندي مشكلة ولازم أعالجها..
كنت بحلل شخصيتي، كل تصرف من أبويا إتأثرت بيه وشوهني بدأ يظهر قدامي. كنت مؤمن إن الوفاء للزوجة مش شرط لسعادتها لأن أبويا عمره ما كان وفي لأمي، وكانت أمي بتقول لي: السعادة وهم والأحسن ما ندورش ورا حاجة ممكن تتعسنا.
كل ده إتخلط في دماغي وأثر عليا، ودقيقتين كده من العلاج النفسي الذاتي فوقوني. هاقدر اعالج نفسي وما أخونش مراتي تاني.
كل التفاصيل الجميلة فيها وفي العشا والبيت فوقتني.. سألتني:
- بتبصلي كأني مسحور!
- أنا مسحور..إنت عارفة بس عايزة تسمعيها تاني.
- ما أزهقش من سماعها أبدا..متوتر علشان بداية الشغل بكرة؟
- لا..متأكد إني هابقا أفضل متدرب في المستشفى.
- مغرور!
- واثق في إمكانياتي. شيء يضايقك؟
- لا أبدا، من الحاجات الي حبتها فيك ثقتك..من بين كل الي عرفتهم إنت الوحيد الي كان واثق وعارف عايز إيه..إنت الي إختارني وإختارته.
بس نفسي أوشفك مرة قلقان أو خايف! هاحطلك عناكب في السرير!
- لا ده ظلم!
هجمت عليها وزغزغتها، فضلنا نضحك ونغيظ بعض زي العيال لحد ما إستسلمت وقالت:
- كفاية هموت! كل عشاك..
- نتكلم جد بقا، ماتقلقيش يا بريا، بقدر أتكيف مع اي مكان جديد وهاقدر أنجح.
- بجد؟ يعني مش هاتكرهني علشان بوظت مستقبلك وجبتك هنا بدل ديترويت؟
- بتكبري الموضوع، ده مش هايبوظ مستقبلي أكيد، أبشع حاجة ممكن تحصل هي إن فرصي في الشغل تقل شوية..شوية صغيرة. مش عايز أسمع كلام في الموضوع ده تاني. ,إنت هاتبدأي شغلك إمتى؟
- الخميس..أحسن من شغلي القديم..أنا بكره الشغل في المستشفيات، فمركز أعادة التأهيل واللياقة أفضل بالنسبة لي بكتير.
- إنت أحسن دكتورة علاج طبيعي في العالم.
- عرفت منين بقا؟
- أنا عارف كل حاجة..نسيتي؟
ضحكت، وضحكتها كانت موسيقى..كانت تطهير من كل ذنب إقترفته في حياتي..


Comments

  1. مستنية الحلقة الثالثة بفارغ الصبر 💖💖💖💖

    ReplyDelete
  2. الله كل حلقه احلي من اللي قبلها ايه المتعه دي

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

إهداء- ‏ستيفين ‏كينج- ‏ترحمة: ‏شيرين ‏هنائي

عشرة ‏أيام ‏في ‏مصحة ‏عقلية ‏- ‏تأليف ‏نيلي ‏بلاي (كامل)‏

الغلاف ‏الأخير- ‏شيرين ‏هنائي